فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين}.
ذكر طبقات الخلق عند الموت وعند البعث، وبيّن درجاتهم فقال: {فَأَمَّآ إِن كَانَ} هذا المتوفَّى {مِنَ المقربين} وهم السابقون.
{فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ} وقراءة العامة: {فَرَوْحٌ} بفتح الراء ومعناه عند ابن عباس وغيره: فراحة من الدنيا.
وقال الحسن: الرَّوْح الرحمة.
الضحاك: الرَّوْح الاستراحة.
القُتَبِيّ: المعنى له في القبر طيب نسيم.
وقال أبو العباس بن عطاء: الرّوح النظر إلى وجه الله، والريحان الاستماع لكلامه ووحيه، {وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ} هو ألا يُحجب فيها عن الله عز وجل.
وقرأ الحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجَحْدريّ ورُوَيس وزيد عن يعقوب {فَرُوحٌ} بضم الراء، ورويت عن ابن عباس.
قال الحسن: الرُّوح الرحمة؛ لأنها كالحياة للمرحوم.
وقالت عائشة رضي الله عنها: قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم: {فَرُوحٌ} بضم الراء ومعناه فبقاء له وحياة في الجنة وهذا هو الرحمة.
{وَرَيْحَانٌ} قال مجاهد وسعيد بن جبير: أي رزق.
قال مقاتل: هو الرزق بلغة حمير؛ يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه؛ قال النَّمِر بن تَوْلَب:
سَلاَمُ الإله ورَيْحَانُ ** ورحمتُه وسَمَاءٌ دِرَرْ

وقال قتادة: إنه الجنة.
الضحاك: الرحمة.
وقيل هو الريحان المعروف الذي يشم.
قاله الحسن وقتادة أيضًا.
الربيع بن خَيْثم: هذا عند الموت والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث.
أبو الجوزاء: هذا عند قبض روحه يتلقَّى بضَبَائر الرَّيْحَان.
أبو العالية: لا يفارق أحد رُوحه من المقرّبين في الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان فيشمهما ثم يقبض روحه فيهما، وأصل ريحان واشتقاقه تقدم في أوّل سورة (الرحمن) فتأمله.
وقد سرد الثعلبي في الرَّوْحِ والريَّحْان أقوالًا كثيرةً سوى ما ذكرنا من أرادها وجدها هناك.
قوله تعالى: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} أي {إِنْ كَانَ} هذا المتوفَّى {مِنْ أَصْحَابِ اليمين} {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} أي لست ترى منهم إلا ما تحبّ من السلامة فلا تهتم لهم، فإنهم يسلمون من عذاب الله.
وقيل: المعنى سلام لك منهم؛ أي أنت سالم من الاغتمام لهم.
والمعنى واحد.
وقيل: أي إن أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلّي الله عليك ويسلم.
وقيل: المعنى إنهم يسلمون عليك يا محمد.
وقيل: معناه سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين؛ فحذف إنك.
وقيل: إنه يُحيَّا بالسلام إكرامًا؛ فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل: أحدها عند قبض روحه في الدنيا يسلّم عليه مَلَك الموت؛ قاله الضحاك.
وقال ابن مسعود: إذا جاء مَلَك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام.
وقد مضى هذا في سورة (النحل) عند قوله تعالى: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ} [النحل: 32].
الثاني عند مساءلته في القبر يسلّم عليه منكر ونكير.
الثالث عند بعثه في القيامة تسلّم عليه الملائكة قبل وصوله إليها.
قلت: وقد يحتمل أن تسلّم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكرامًا بعد إكرام.
والله أعلم.
وجواب (أن) عند المبرِّد محذوف التقدير مهما يكن من شيء {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} إن كان من أصحاب اليمين {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} فحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدّم عليه، كما حذف الجواب في نحو قولك أنت ظالم إن فعلت؛ لدلالة ما تقدّم عليه.
ومذهب الأخفش أن الفاء جواب {أَمَّا} و(أن)، ومعنى ذلك أن الفاء جواب {أَمَّا} وقد سدّت مسدّ جواب (أن) على التقدير المتقدّم، والفاء جواب لهما على هذا الحد.
ومعنى {أَمَّا} عند الزجاج: الخروج من شيء إلى شيء؛ أي دع ما كنا فيه وخذ في غيره.
قوله تعالى: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين} بالبعث {الضآلين} عن الهدى وطريق الحقّ {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} أي فلهم رزق من حميم، كما قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون لآكِلُونَ} وكما قال: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات: 67] {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} إدخال في النار.
وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها؛ يقال: أصلاه النار وصلاه؛ أي جعله يصلاها والمصدر هاهنا أضيف إلى المفعول؛ كما يقال: لفلان إعطاء مالٍ أي يُعطَى المال.
وقرئ: {وَتَصْلِيَةِ} بكسر التاء أي ونزلٌ من تصلية جحيم.
ثم أدغم أبو عمرو التاء في الجيم وهو بعيد.
{إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} أي هذا الذي قصصناه محض اليقين وخالصه.
وجاز إضافة الحقّ إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما.
قال المبرِّد: هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين؛ فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين.
وعند البصريين حقّ الأمر اليقين أو الخبر اليقين.
وقيل: هو توكيد.
وقيل: أصل اليقين أن يكون نعتًا للحقّ فأضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع والمجاز؛ كقوله: {وَلَدَارُ الآخرة} [يوسف: 109] وقال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتاركٍ أحدًا من الناس حتى يَقِفه على اليقين من هذا القرآن، فأمَّا المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين.
{فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} أي نَزِّه الله تعالى عن السوء.
والباء زائدة أي سبّح اسم ربك، والاسمُ المسمَّى.
وقيل: {فَسَبِّحْ} أي فصلّ بذكر ربك وبأمره.
وقيل: فاذكر اسم ربك العظيم وسبّحه.
وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم». خرجه أبو داود.
والله أعلم. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين} الآية، ذكر سبحانه في هذه الآيةِ حال الأزواج الثلاثةَ المذكورين في أَولِ السورة، وحال كُلِّ امرىءٍ منهم، فَأَمَّا المرءُ من السابقين المقربين، فَيَلْقَى عند موته رَوْحًا وريحانًا، والرَّوْحَ: الرحمة والسعة والفرح؛ ومنه: {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} [يوسف: 87] والريحان: الطيب، وهو دليل النعيم، وقال مجاهد: الريحان: الرزق، وقال الضَّحَّاكُ: الريحان الاستراحة، قال: الريحان ما تنبسط إليه النفوس، ونقل الثعلبيُّ عن أبي العالية قال: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يُؤْتَى بغصنٍ من ريحان الجنة فَيَشُمُّهُ، ثم يُقْبَضُ روحه فيه، ونحوه عن الحسن، انتهى.
فإنْ أردت يا أخي اللحوق بالمقربين؛ والكون في زمرة السابقين، فاطرح عنك دنياك؛ وأقبلْ على ذكر مولاك، واجعل الآن الموت نصب عينيك، قال الغزاليُّ: وإنَّما علامةُ التوفيق أَنْ يكون الموت نصبَ عينيك، لا تغفل عنه ساعة، فليكنِ الموتُ على بالك يا مسكين؛ فإنَّ السير حاثٌّ بك، وأنت غافل عن نفسك، ولعلك قد قاربت المنزلَ، وقطعت المسافة فلا يكن اهتمامُك إلاَّ بمبادرة العمل، اغتنامًا لكل نَفَسٍ أمهلتَ فيه، انتهى من (الإحياء)، قال ابن المبارك في (رقائقه): أخبرنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: ما مِنْ مَيِّتٍ يموت، إلاَّ عرض عليه أهل مجلسه: إنْ كان من أهل الذِّكْرِ فمن أهل الذكر، وإِنْ كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو، انتهى.
وقوله تعالى: {فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين}: عبارة تقتضي جملةَ مدحٍ وصفةَ تخلُّصٍ، وحصولَ عالٍ من المراتب، والمعنى: ليس في أمرهم إلاَّ السلامُ والنجاةُ من العذاب؛ وهذا كما تقول في مدح رجل: أَمَّا فلان فناهيك به، فهذا يقتضي جملةً غيرَ مفصلة من مدحه، وقدِ اضطربت عباراتُ المُتَأَوِّلِينَ في قوله تعالى: {فسلام لَّكَ} فقال قوم: المعنى: فيقال له سلام لك إنَّكَ من أصحاب اليمين، وقال الطبريُّ: {فسلام لَّكَ}: أنت من أصحاب اليمين، وقيل: المعنى: فسلام لك يا محمد، أي: لا ترى فيهم إلاَّ السلامة من العذاب.
ومن حصلت له السلامةُ من العذاب فقد فاز دليله {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] قال: فهذه الكاف في {لَّكَ} إمَّا أنْ تكونَ للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر، ثم لكل مُعْتَبِرٍ فيها من أُمَّتِهِ، وإمَّا أَنْ تكونَ لمن يخاطب من أصحاب اليمين، وغيرُ هذا مِمَّا قيل تَكَلُّفٌ، ونقل الثعلبيُّ عن الزَّجَّاج: {فسلام لَّكَ} أي: إنَّك ترى فيهم ما تحب من السلامة، وقد علمتَ ما أَعَدَّ اللَّه لهم من الجزاء بقوله: {فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} الآيات... والمكذبون الضالُّون: هم الكفار، أصحابُ الشمال والمشأَمة، والنُّزُلُ: أول شيء يقدم للضيف، والتصلية: أنْ يباشر بهم النار، والجحيم معظم النار وحيث تراكمها.
{إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} المعنى: إنَّ هذا الخبرَ هو نفس اليقين وحقيقتُه.
وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} عبارة تقتضي الأمر بالإِعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها، وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة اللَّه تعالى، والدعاء إليه. وعن جابر بن عبد اللَّه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قال سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ في الْجَنَّةِ» رواه الترمذي، والنسائيُّ، والحاكم، وابن حبان في (صحيحيهما)، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وعند النسائِيِّ: «شَجَرَةَ» بدل «نَخْلَةَ»، وعنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلاَلِ اللَّهِ التَسْبِيحَ، وَالتَّهْلِيلَ، وَالتَّحْمِيدَ يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا، أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ أَوْ لاَ يَزَالَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ»، ورواه أيضًا ابن المبارك في (رقائقه) عن كعب، وفيه أيضًا عن كعب أَنَّهُ قال: «إنَّ لِلْكَلاَمِ الطَّيِّبِ حَوْلَ الْعَرْشِ دَوِيًّا كَدَوِيِّ النَّحْلِ يُذَكِّرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ» انتهى، وعن أبي هريرةَ «أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا فَقال: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الَّذِي تَغْرِسُ؟ قُلْتُ: غِرَاسًا، قال: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ مِنْ هذا؟ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ؛ يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ».
روى هذين الحديثين ابن ماجه واللفظ له، والحاكم في (المستدرك)، وقال في الأول: صحيح على شرط مسلم، انتهى من (السلاح)، ورَوَى عُقْبَةُ بن عامر قال: «لَمَّا نزلتْ: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلُوهَا في رُكُوعِكُمْ؛ فَلَمَّا نَزَلَتْ: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} قال: اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُمْ»، فيحتمل أنْ يكونَ المعنى: سبح اللَّه بذكر أسمائه العلا، والاسم هنا بمعنى: الجنس، أي: بأسماء ربك، والعظيم: صفة للرب سبحانه، وقد يحتمل أَنْ يكون الاسم هنا واحدًا مقصودًا، ويكون (العظيم) صفة له، فكأَنَّه أمره أَنْ يسبِّحَهُ باسمه الأعظم، وإنْ كان لم يَنُصَّ عليه، ويؤيِّدُ هذا ويشير إليه اتصالُ سورة الحديد وأوَّلُها فيها التسبيح، وجملة من أسماء اللَّه تعالى، وقد قال ابن عباس: اسم اللَّه الأعظم موجود في سَتِّ آيات من أَوَّلِ سورة الحديد، فتأمَّل هذا، فإنَّهُ من دقيق النظر، وللَّه تعالى في كتابه العزيز غوامضُ لا تكاد الأذهانِ تدركها. اهـ.